كيف تنهض الأمم؟ أسرار التقدم
(إن الدول التى تبدأ فى التنمية الاقتصادية حديثا، تبدأ من حيث انتهى الآخرون ، وهى بذلك توفر الوقت والمال والجهد ، من خلال الاستفادة من خبرات الدول المتقدمة وانجازاتها العلمية والتقنية واتباعها الخطوات نفسها التى اتخذتها هذه الدول فى المسار الصحيح) . المؤرخ الاقتصادى ألكسندر جيرتشينكرون .
فى وقت تسعى فيه مصر لحل مشاكلها المتعددة وتدشين رؤية على الأرض للانطلاق الاقتصادى أسوة بدول سبقتنا , نستعرض فى هذا الملف كيفية الاستفادة من التجارب التنموية المشابهة للحالة المصرية , ومنها دول النمور الآسيوية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والصين وفيتنام والهند ، و دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وتشيلى ، أوجنوب أفريقيا بالقارة السمراء, وقد استطاعت جميعها تحقيق قفزة تنموية كبيرة بعد عقود من الحكم السلطوى والتخلف فى كافة المجالات.
وسبب اختيار هذه التجارب أنها جميعا وفى بداية مسيرتها التنموية كما سنرى تتشابه فى مجموعة من الخصائص الديموجرافية والطبيعية والجيواستراتيجية مع مصر وعدد كبير من الدول العربية الأخرى، فعندما بدأت هذه الدول تضع إحدى قدميها فى نادى الكباركانت تعانى من تأخر مستويات التنمية ، خصوصـًا فى مجال التعليم وارتفاع معدلات الفقر, وانخفاض قيمة العملة الوطنية أمام الدولار الأمريكي، والتضخم وارتفاع مستويات الدين العام سواء الخارجى أو الداخلى وضعف معدلات النمو, بالإضافة إلى مشكلة النقص الحاد فى الطاقة وتوصيل الكهرباء إلى مساحات كبيرة من البلاد، كما عانت من مشكلات انتشار الجريمة المنظمة والتفاوت الشديد بين طبقات المجتمع , وعانت أيضا من حالة عدم الاستقرار السياسى واضطراب فى أوضاعها الداخلية ومحيطها الإقليمى , فماذا فعلت تلك الدول لتصبح نموذجا يحتذى به للعديد من الدول المتطلعة للتنمية , وماهى المجالات التنموية التى انطلقت منها وركزت عليها , وكيف واجهت المشاكل التى اعترضتها ؟ ، كى تكون نصب أعين صناع القرار فى مرحلة بناء الدولة المصرية ، وإرساء قواعد انطلاقها نحو النهضة والتقدم .
أولا : التعليم ومحاربة الأمية
كان السر وراء تقدم هذه النمور الاقتصادية كما فى حالة ماليزيا ، وكوريا الجنوبية ، وسنغافورة والهند وتايوان والصين والبرازيل وتشيلى وجنوب أفريقيا هوالتعليم كمدخل أساسى لعملية التنمية، لأنه لا يمكن أن يحدث تقدم بدون إنسان واع متعلم .
فقد وضعت هذه الدول استراتيجية للتعليم قامت على ثلاث أسس وهى , محو أمية الكبار, والتركيز على التعليم التقنى والفنى , وزيادة الموازنة المخصصة للتعليم من 2.2 % الى 15 % ثم الى 20 % ثم الى 25 % من اجمالى الموازنة العامة للدولة باعتبار التعليم هو المشروع القومى الأول للدولة ومدخلها الرئيسى للتنمية الشاملة , فكوريا الجنوبية عملت بصورة فعالة على إكساب المهارات، وتعزيز القدرات الأساسية لبناء الإنسان الواعى المبدع الملتزم بالعمل والأخلاق, كما اهتمت الدولة بالمعلم ودوره ومكانته فى السياسة التعليمية ، وإنشاء المؤسسات التعليمية والمهنية ، وتطوير مواد التعليم لتواكب عملية التنمية الاقتصادية إلى جانب بث روح الطموح للتعلم ، وكان للتعليم أكبر الأثر فى تغيير العمال الكوريين الذين كانوا يعرفون بالكسل واللامبالاة وإدمان الفشل والفقر، الى أيدى عاملة وطنية تنشد إتقان العمل والاجتهاد والمثابرة فى خدمة الوطن .
وارتفع مقدار الإنفاق على التعليم من 2.2% من الموازنة العامة فى ستينيات القرن الماضى الى 15% فى السبعينيات وتزايد سنويا الى أن بلغ 25 % , كما أظهرت الدولة اهتماما كبيرا بالبحث العلمى والتكنولوجي، منذ ستينيات القرن الماضى وتم ربطه بعملية التصنيع .
وبدأت تجربة كوريا لمحاربة الأمية بإنشاء معاهد لحملات محو الأمية 1949, وتم بين عامى 1949-1959 زيادة عدد المدارس الابتدائية الشعبية فى الورش والمصانع والمناطق السكنية , وبعد 1960حتى 1975, ازدهرت المدارس المتوسطة للعاملين, وكان هدف المرحلة التالية هو عقلنة المجتمع بالكامل أى رفع المستوى الثقافى والفنى للعاملين إلى مستوى خريجى الجامعة فتم إنشاء الكليات الملحقة بالمصانع, وكان بإمكان العاملين الالتحاق بالدراسة دون الحاجة إلى الانقطاع عن الأنشطة الإنتاجية, كما أنشئت كليات المزارعين والصيادين، والتعليم الجامعى المسائى .
وأحد أهم أسرار نجاح تجربة ماليزيا فى التقدم أنها استفادت من تجربة اليابان فى التعليم والاعتماد على العنصر البشرى المدرب المتعلم ، وليس من الغريب أن تكون وزارة التعليم هناك أهم الوزارات وليست وزارة الدفاع أوالداخلية أوالخارجية، ويبلغ إنفاق ماليزيا حاليا على التعليم 28.01% من الموازنة العامة بعدما استمر لسنوات عديدة 24 % ، محتلة بذلك المركز الثانى عالميا, بدءًا من التعليم الأساسى وحتى الجامعات بحيث يتم إنفاق هذه المبالغ على بناء مدارس جديدة خاصة المدارس الفنية، وإنشاء معامل للعلوم والكمبيوتر والاهتمام بالبعثات التعليمية لكل دول العالم، وتحسين العلاقات بكل دول الجوار لتعزيز التعاون فى نقل العلوم والتكنولوجيا, ومنح قروض لمواصلة التعليم العالى داخل وخارج البلاد، وليس لإنفاقها على المكافآت لمستشارى الوزارة كما يحدث فى مصر.
كما نجحت ماليزيا فى خفض نسبة الأمية من 47% عام 1981 إلى 11.07% فى عام 2010، والى 5% عام 2014 وذلك من خلال حملات محو الأمية والتعليم المهنى الذى انتعش بصورة مذهلة استجابة للنمو الهائل الذى شهدته القطاعات الصناعية لإخراج عمالة ذات كفاءة عالية، تعمل وفق منهجية علمية وليس بشكل عشوائى , فمن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة ؛ فبجانب العلوم والآداب تُدرَّس مواد خاصة بالمجالات المهنية والفنية التى تتيح للطلاب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم , اضافة الى معاهد التدريب المهنى التى تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل فى مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك .
خطة سنغافورة للتعليم
وضعت سنغافورة منذ بداية سبعينيات القرن الماضى خطة قومية للتعليم المدرسى الذى يعد الأول الأن على مستوى العالم من حيث قدرات العلوم والرياضيات , ويكمن سر نجاح تجربة سنغافورة فى بناء القدرات والمهارات من خلال نظام التعليم فى كل مرحلة من مراحل التنمية الاقتصادية التى تمر بها الدولة, فنجحت فى إدخال نظام تعليم مبنى على القدرات ويرتكزعلى الإبداع والبنية المؤسسية الابتكارية فى جميع المراحل التعليمية وذلك بهدف تطبيق رؤية التعليم (مدارس تفكر… مجتمع يتعلم), فركز التعليم على تخريج عمالة منتجة الأمر الذى جعل المقررات تميل إلى العلوم والتخصصات الفنية بدل التخصصات الأخرى الأقل أهمية فى هذه المرحلة التنموية , والأهم من ذلك أن هذا النظام التعليمى قام على أساس (الأهلية والاستحقاق) فبعد ست سنوات من التعليم الابتدائى يتقدم الطلبة لامتحانات تحدد قدراتهم واستعداداتهم ومن ثم يتم إرسالهم إلى مدارس ثانوية تتناسب مع قدراتهم الذهنية ، فالأقدر بينهم يتوجهون إلى أفضل المدارس الثانوية، وهكذا كلما تراجعت قدرات الطفل كلما كان مستوى المدرسة الثانوية التى يلتحق بها أقل من حيث الجودة أما الطلبة الذين لم يثبتوا جدارتهم للذهاب إلى الثانوية فإنهم يذهبون إلى مدارس فنية تعدهم للعمل .
وبعد أربع سنوات من الدراسة الثانوية يتقدم الطلبة إلى امتحان آخر يحدد من يذهب إلى الجامعة ومن هو أقل منه قدرة فيذهب إلى كليات التقنية للتدرب على مهارات للعمل, أما الذين يذهبون إلى الجامعة فإنهم يتقدمون لامتحان آخر بعد سنتين فإذا كان أداؤهم عاليـًا فإنهم يكملون التعليم الجامعى.
وعندما قررت سنغافورة أن تكون من إحدى الدول المتقدمة فى البحث العلمى ركزت على ثلاثة مجالات رئيسية فقط بالإضافة إلى مجال البحث والتطوير العسكرى، وشملت المجالات العلمية الثلاثة، علوم الحياة ( البيوتكنولوجى والفارما سوتيكال) ، ومجال التكنولوجيا النظيفة، ومجال التكنولوجيا الرقمية، ثم أعدت دراسات تفصيلية لهذه المجالات، وأنشأت مراكز البحوث والمدن العلمية اللازمة، ومنها مدينة بها أكثر من 7 آلاف باحث يحملون درجة الدكتوراه للتركيز على علوم الحياة، وأصبح العائد فى مجالى (البيوتكنولوجى والفارما سوتيكال) ما يعادل نحو 60 % من قيمة الاقتصاد السنغافورى .
ويمكن لمصر أن تستفيد من تجارب هذه الدول سواء فى التعليم والبحث العلمى أو فى جهود مكافحة الأمية التى تقدر حاليا بأكثر من 30 % من إجمالى السكان وتصل إلى 60% بين النساء .
ثانيا :التصنيع والتصدير
ارتكزت تجارب التنمية فى الدول محل الدراسة على الأولوية باتجاه التصنيع كضرورة حتمية لتحقيق معدلات عالية فى النمو, والتركيز على الاقتصاد المعرفى والقيمة المُضافة بالربط بين التعليم والبحث العلمى ومجالات الصناعة , اضافة الى التركيز على الخدمات المالية بالتوازى مع سياسة تجارية مدروسة خلال هذه المراحل لعبت دورًا حيويـًا فى البناء الاقتصادي, فالتجربة السنغافورية تأسست على مبدأ منصة التصديروالتخصص فى الصناعات الإلكترونية الدقيقة والتكنولوجيات المتقدمة للإعلام والاتصال ، والصناعات التقنية الحيوية والكيميائية والبتروكيميائية ومعدات حفر آبار النفط ، وتكرير النفط وتصنيع الأدوية والمواد الغذائية المصنعة والمشروبات، ومنتجات المطاط وإصلاح السفن , وذلك باستقطاب كبريات الشركات العالمية وتوطينها فى سنغافورة مع تقديم تسهيلات ضريبية مغرية، فضلاً عن اليد العاملة المؤهلة خاصة فى ميدان الصناعات الدقيقة بفضل النظام التربوى والتعليمى الجيد الذى يتميز به هذا البلد القزم جغرافيًا والكثيفة السكان ( 5 مليون على مساحة أقل من مدينة بورسعيد ) ، ونظرًا لانخفاض تكلفة الإنتاج والقدرة على المنافسة الخارجية من حيث الجودة والأسعار فقد اتخذت هذه الشركات من سنغافورة منصة لتصدير منتجاتها إلى الدول الآسيوية ووصلت صناعاتها الرقمية إلى العديد من دول العالم ونافست دولًا عريقة فى ميدان التكنولوجيات الرقمية والصناعات الدقيقة كاليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية , وخلال 40 عاما من تاريخ استقلالها عام 1963حيث كانت أفقر دول العالم ولا يوجد بها أية موارد على الاطلاق أصبحت سنغافورة إحدى أغنى دول العالم على الإطلاق ( فى المرتبة الثالثة عالميًا ) .
وأعطت الحكومة الكورية الجنوبية , وكذا الحالتان البرازيلية والجنوب أفريقية الأولوية لتطويرالصناعات التحويلية فى اطارسياسة التوسع فى التصدير ما انعكس على الصادرات بالإيجاب وأسهم فى نقلها من أحدى أفقر دول العالم إلى أكثر قواها الصناعية الواعدة ,وبفضل تركيزها على التعليم والتصنيع تحولت كوريا الجنوبية خلال الفترة من 1965- 1991 من دولة زراعية نامية فقيرة إلى دولة صناعية متطورة . كما تعد البرازيل ذات الكثافة السكانية المرتفعة 200 مليون نسمة أحدى أسرع دول العالم نموا بمعدل 7% سنويا وفى عام 2011 أصبحت البرازيل سادس أكبر اقتصاد على مستوى العالم , وتميزت البرازيل بالفترة من 1950 وحتى 1980، بتبنى سياسة التصنيع عوضـًا عن الاستيراد، واتبعت الحكومة سياسة الحماية والدعم الشعبى وبعضا من المشاركة المباشرة فى المشروعات المملوكة للدولة، وذلك من أجل التوسع فى الصناعة بشقيها: البسيطة القائمة على المواد الخام مثل التعدين والصناعات الغذائية والجلدية والنسيج، والصناعات التقنية المتقدمة كصناعة السيارات والطائرات, و نهجت الدولة سياسة تحرير السوق والانفتاح فى قطاعى التجارة والمال , وبهذه السياسة أصبحت جنوب أفريقيا - التى عانت من العنف والارهاب والفقر والأمية - تسهم بنحو 30% من إجمالى المنتجات الصناعية فى القارة الأفريقية وارتفع معدل نموها من 2.4 % فى عام 1999 ليصل إلى 7% عام 2014.
وركزت الهند على مجال تكنولوجيا المعلومات لتصبح أحدى الدول الرائدة فى هذا المجال ويطلق عليها لقب وادى سيلكون آسيا , واستغلت الهند الميزات التنافسية التى تتمتع بها من موارد طبيعية ، وقوة العمل الماهرة المتوفرة بهدف مضاعفة الناتج المحلى الإجمالى من عدة مجالات خاصة التكنولوجيا الطبية التى توفر فرص عمل أكثر من قطاع تكنولوجيا المعلومات , وفى حال نجاح الهند وهى دولة كثيفة السكان 1.4 مليار نسمة فى تحقيق رؤيتها لعام 2020، فإنها مرشحة لأن تكون النمر الآسيوى المقبل فى القرن الحادى والعشرين بعدما عانت من حروب مستمرة مع باكستان وأزمات طاحنة من الفقر والبطالة .
أعلى معدل تنمية بالصين
وبعد انتصار ثورة الشعب عام 1949م بقيادة ماوتسى تونج استطاعت الصين فى زمن قياسى أن تحقق إنجازات عظيمة فى حركة التنمية فاقت كل التوقعات ، بلغت أعلى معدل لها عام 1993وهو 13 % , وقهرت التخلف والفقروالأمية ونقص التقنية , وتعتبر اليوم عملاقا اقتصاديا وسكانيا وسياسيا وتجاريا يحتل المركز الخامس على مستوى العالم .
وتتسم القاعدة الإنتاجية فى الصين بالتنوع الكبيروبصفة خاصة قطاع الصناعة التحويلية والتكنولوجية ، كما تتميزبوجود فائض ضخم من العمالة الوطنية فى ضوء حجم السكان الضخم والبالغ 1.5مليار نسمة وهو الأمر الذى يمثل ميزة للصين تساعدها على تخفيض تكلفة منتجاتها وبالتالى رفع قدرتها التنافسية فى الأسواق العالمية ومن ثم زيادة الصادرات, ولقد استطاعت الصين أن توظف العامل البشرى توظيفاً جيداً من خلال المشروعات الصغيرة والقروض طويلة الأجل ، فتحولت المنازل إلى ورش عمل صغيرة كما اهتمت بما يسمى وكيل للتسويق فى كل الأنشطة وبكل قرية ومدينة وكذا على المستوى القومى ، وبالتالى انخفضت البطالة وازدادت نسبة التنمية ، معطية العالم درسا مهما وهو أن عدد السكان ليس عائقا أمام التقدم والنمو وأن الثروة البشرية هى أغلى ما تمتلكه الشعوب .
ومن أجل تحقيق مبدأ منصة التصدير, عقدت دول جنوب أفريقيا والهند والبرازيل وسنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا والصين اتفاقيات للتجارة مع الدول المجاورة لها ومع معظم دول العالم ، فضلا عن الاتفاقيات التى أبرمتها من أجل تحقيق الأمن والاستقرار فى أقاليمها والانضمام إلى العديد من المنظمات الدولية كمنظمة التجارة العالمية ، والى المنظمات الإقليمية كالأسيان والبريكس ومجموعة المحيط الهادى وغيرها , كما استطاعت أن تضمن عضويتها فى قمة العشرين وهى عبارة عن منتدى دولى لاتخاذ القرارات العالمية .
واعتمدت هذه الدول فى سياسيتها الخارجية على ثلاث ركائز: أولها بناء تكامل إقليمى مع دول الجواركما فى حالة تجمع الأسيان، ومنظمة دول الأمريكتين وغيرها وثانيـًا: الانفتاح على الدول الصاعدة اقتصاديـًا كما فى حالة البريكس ، مع ضمان حد أدنى من الحضور الدولى العام من خلال المشاركة الفعالة فى المنظومة العالمية، سواء على المستوى الاقتصادى أو الأمنى، أومن خلال مهام حفظ السلام والمشاركة فى المنظمات متعددة الأطراف ، وثالثـًا التوجه نحو العالم العربى وأفريقيا لما يمثلانه من قوة جذب استثمارية واعدة.
ثالثا : رؤية صارمة لمكافحة الفساد
هذه الدول عانت من الفساد للدرجة التى يمكن أن يطلق عليها دول الفساد ولكنها قامت من خلال التشريعات والقوانين ، بمحاربة الفساد والقضاء عليه , ولم تنجح فى مشاريعها الاقتصادية التنموية إلا بعد أن بدأت أولاً بمحاربة الفساد , فمن أسباب نجاح تجربة سنغافورة التنموية خفض مستويات البيروقراطية والفساد الإدارى لمستويات متدنية، إذ استطاعت على مدى عقدين من الزمن أن تنتقل من تصنيفها فى الستينات كواحدة من أسوأ الدول فسادا الى المرتبة الرابعة فى أقل الدول فساداً فى مؤشر منظمة الشفافية العالمية، ذلك بفضل تفعيل قانون مكافحة الفساد ، وقانون اعلان الأموال والممتلكات، إذ يلزم كل مسئول حكومى أن يقدم بياناً كل عام عن حجم أمواله واستثماراته فى البنوك والمؤسسات، بما فى ذلك الأموال العائدة لزوجته وأبنائه .
وتم اتخاذ الكثير من التدابيرالوقائية للحد من الفساد، منها هيئة مستقلة تقوم بالتحقيق فى قضايا الفساد الحكومى والخاص وتتبع رئيس مجلس الوزراء مباشرة، وإعطاء سلطات واسعة لأعضاء دائرة التحقيق فى الممارسات الفاسدة فى الكشف عن الجرائم، ومراقبة التغييرات التى تطرأ على حياة الموظفين وحرمان المتورط منهم من الترقى الوظيفى ، وإمكان الاطلاع على حساباتهم المصرفية، ورفع رواتب الموظفين فى الدولة بشكل يجعلها كافية لتوفير مستوى حياة كريمة، ووضع مدونة إجراءات إدارية واضحة، وإيجاد أنظمة شفافة تؤدى إلى التقليل بشكل كبير من الأسرار التى يملكها الموظف العام بسبب وظيفته، وتحديد أجل سنة كحد أقصى يجب الانتهاء فيه من القضايا من حيث التحقيق والإحالة إلى المحاكم للفصل فيها أو حفظ الأوراق، باعتبار أن إطالة عمر القضايا فى التحقيق، والمحاكمة مؤشران من مؤشرات الفساد أوالإهمال، وحظر استعمال الصفة الوظيفية فى الأماكن والمراجعات بالنسبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والموظفين كافة إلا بالقدر الذى يستدعيه ذلك، وإيجاد نظام مفتوح للمشتريات الحكومية يمكن الإطلاع عليه من خلال مركز الأعمال الإلكتروني، وهو بوابة للمشتريات الحكومية تسمح للمتقدمين بعروض رؤية كل الصفقات والمواصفات المطلوبة، لتنتقل سنغافورة بذلك بعد أن كانت من أسوأ بلــدان العالـــم فساداً إلى أكثرها نزاهة.
وقد وجدت الدول محل الدراسة ومنها ماليزيا والبرازيل أن علاج هذه الظاهرة والقضاء عليها أو محاصرتها على الأقل لا يمكن أن يحدث بدون اعتماد استراتيجية متعددة الجوانب تشمل :
1- الشفافية فى العمليات الحكومية باعتبارها أمراً حيوياً يتعلق بالموازنة والإدارة العامة والسياسة الضريبية وتمويل العمليات .
2– المساءلة ووضع عقوبات صارمة ورادعة للمخالفين بما يشكل قيداً على سلوك القائمين على شؤون السلطة ويلزمهم باحترام حقوق ورغبات المواطنين.
3- القيام بحملات توعية عامة ومحاولات جادة للتشهير بالفاسدين ومعاقبتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ، وخلق رأى عام معارض للفساد داخل المجتمع المحلي.
4- إحداث تغييرات إدارية وإصلاحات داخلية فى قطاعات الخدمة العامة من خلال, اعتماد سياسة التدوير الوظيفى , والتركيز أثناء التدريب للخدمة العامة على أخلاقيات الوظيفة العامة والمسؤولية العامة.
5- إنشاء هيئة خاصة لمكافحة الفساد تابعة فى مرجعيتها لمكتب رئيس الدولة لتجنب حدوث تدخلات وضغوطات من أطراف مختلفة كما فى حالة تجارب دول مثل كوريا الجنوبية و سنغافورة و ماليزيا ( وكالة مكافحة الفساد ) و الهند ( مكتب مكافحة الفساد) , مع تفعيل دور البرلمانات و المجالس المحلية المنتخبة ديمقراطياً و مؤسسات المجتمع المدنى فى مجال مكافحة الفساد .
وأثبتت تجارب الدول التى حققت نجاحاً نسبياً فى الحد من الفساد أنه لا يمكن أن تتحقق التنمية بدون مفاهيم الشفافية والمساءلة والحكم الرشيد ومن ثم الديمقراطية
فبدأت هذه الدول فى تسعينات القرن الماضى فى سياسة التحول الديمقراطى والحكم الرشيد تزامنا مع تحقيق معدلات تنموية مرتفعة , وقامت بعدد من الإصلاحات متمثلة فى قوانين محاربة الفساد وقوانين تعديل العملية الانتخابية والتمويل السياسي، كما أن المجتمع المدنى والمشاركة الاجتماعية كان لهما دور مهم فى تفعيل هذه القوانين ومراقبة المؤسسات المدنية .
ونجحت تلك الدول فى بناء أكبر ديمقراطيات حقيقية خارج العالم الغربى , ويمثل التحول الديمقراطى لجنوب أفريقيا بعد ثلاثين عاما من الصراع المسلح (1960 ـ 1999)
وفى ماليزيا والهند بعد عقود من الصراع بين مكوناتها العرقية , وكذا التحول الديمقراطى فى كوريا الجنوبية والبرازيل وتشيلى الذى جاء عقب حكم سلطوى استمر لعقود عدة , أحد أبرز ملامح التجربة التنموية لهذه الدول لتصبح واحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارا فى العالم على الرغم من التنوع العرقى لسكانها .
وقد كان التحول الديمقراطى ومكافحة الفساد عاملا حاسما فى جذب الاستثمارات الأجنبية، وبناء الثقة وخلق بيئة مواتية للنمو .
رابعا : تمويل عملية التنمية
تمويل التنمية من القضايا التى واجهت العديد من الدول التى أنجزت أشواطا إيجابية على طريق التنمية , وتم ذلك من خلال اعتماد عدد من السياسيات الصارمة لتحقيق هذا الهدف ومواجهة أزمة اقتصادية حادة سبقتها أوضاع مالية سيئة على مدارعدة سنوات , وكانت أهم مظاهرالأزمة , انخفاض معدل النمووانخفاض سوق الأوراق المالية وزيادة معدلات التضخم وارتفاع عجز الموازنة وارتفاع أسعارالفائدة وانخفاض قيمة العملة الوطنية إلى مستويات غير مسبوقة لتفقد أكثر من 70% من قيمتها فى بعض هذه الدول كماليزيا وتركيا وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية والبرازيل بالإضافة إلى تراجع أداء القطاعات الاقتصادية وتراجع الاستثمارات وانخفاض الاحتياطى الأجنبى وارتفاع معدلات البطالة , ما أدى لاحقاً إلى انخفاض الطلب المحلى وزيادة مشاكل التعثر فى التمويل وتراكم الديون وانخفاض المبيعات .
ويمكن لمصر أن تستفيد من تلك التجارب فى ضوء احتياجاتها والظروف السياسية والاقتصادية المحيطة بها، داخليا وإقليميا وعالميا , ويتصور أنه بوسع مصر أن تستفيد من الآليات الآتية:
* برنامج وطنى للاصلاح الاقتصادى والمالى فى محاولة لعلاج هذه الأزمة لجأت تلك الدول إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولى والذى فرض عليها شروطاً قاسية أدت إلى تعميق أزمتها الاقتصادية ، وهو ما جعل تلك الدول ترفض شروط الصندوق وتتبنى برنامجاً متكاملاً للإصلاح الاقتصادى يتناسب مع ظروف كل منها , والثابت أن دور الدولة فى التنمية، كان اللاعب الأساسى فى تلك التجارب وسببا فى نجاحها حيث وجدت فى هذه الدول قيادات سياسية واعية وضعت رؤية للتقدم وأصرت على تطبيقها، بالاشتراك مع القطاع المدنى والخاص كشركاء فى التنمية، والاهتمام بحقوق الإنسان ، ومحاولة تحجيم الفساد بأنواعه.
ويعود جزء كبير من مقومات نجاح التجربة الاقتصادية للبرازيل والهند وتشيلى وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة والصين إلى تدخل الدولة فى السياسات التنموية وعدم اتباع آليات السوق الحرة بشكل مطلق، فقد اتبعت الدولة عددا من الاستراتيجيات المتعلقة بتطويرمنتجات جديدة ومعالجة مخاطر رأس المال ، والتدريب الفنى والتقنى للعمالة.
واعتمدت كوريا الجنوبية على مبادراتها الذاتية منذ 1965، واستطاعت تحقيق التنمية الاقتصادية بنجاح من خلال المزج بين تخطيط الدولة المركزى واقتصاد السوق كطريق للتنمية، مع تدخل الحكومة بشكل مباشر ومكثف فى اقتصاد السوق فى المراحل الأولى من عملية التنمية الاقتصادية وعدم الاعتماد على آليات السوق وحدها , وانحصرت صور هذا التدخل فى وضع السياسات العامة والاستراتيجيات الكبرى والخطط والمشاريع , واعتماد الميزانيات والتوسع فى التصدير باعتباره محرك للنمو الاقتصادى ومتابعة مراحل التنفيذ وإيجاد سياسات متوازنة تجاه القطاعات الإنتاجية والخدماتية المختلفة .
وبدأت ماليزيا تبحث عن مخرج لأزمتها الاقتصادية ولكن بعيداً عن صندوق النقد الدولى , وتبنت عدداً من السياسات والإجراءات كان أهمها فرض قيود صارمة على السياسات النقدية وإعطاء البنك المركزى صلاحيات مطلقة لاتخاذ الإجراءات التى تمنع تهريب النقد الأجنبى , وتبنى سياسات محفزة للاستثمار، وخفض الاعتماد الزائد على أسواق الأوراق المالية (البورصات)، نظراً لما يعتريها من تذبذب خاصة وأنها كانت أحد الأسباب الرئيسية فى حدوث الأزمة , وهكذا نجحت ماليزيا فى رفع معدل النمو إلى 5% ومضاعفة عوائد الصادرات من العملة الصعبة .
وتبنت الحكومة البرازيلية أجندة إصلاح اقتصادى بداية من تسعينيات القرن الماضى عرفت بخطة الريال عام 1994 والتى أنهت خمسة عشرعاما من التضخم المزمن، ومع تولى لولا داسيلفا رئاسة الدولة ، نفذت عام 2002 خطة للخروج من عجز الموازنة والقضاء على أزمة الثقة مع المستثمرين , كما نجحت الحكومة الهندية فى إنجاز 13 خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من عام 1951 وحتى عام 2015، فضلا على نجاحها فى إيجاد قطاع وطنى لتكنولوجيا المعلومات وصناعة وطنية تقوم على استغلال الموارد المحلية .
وقد تبنت تشيلى عام 1990 برنامج إصلاحات يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هى : التحرير الاقتصادى والخصخصة , وتثبيت معدلات التضخم , والارتقاء بالقدرة التنافسية وتحسين كفاءة الاقتصاد فى أربعة مجالات رئيسية هى : البنية التحتية، ورأس المال البشري، وتنمية الإنتاجية، وتعزيز المؤسسات الاقتصادية ومحاربة الفساد , ووضعت حكومة جنوب أفريقيا عام 1995سيناريوهات ثلاثة قامت بانجازها ، أولها, استبدال الصناعات التقليدية بقطاعات حديثة باعتباره التوجه الأمثل للتنمية الاقتصادية , وثانيها, تسهم الدولة فى امتلاك بعض الشركات الضخمة، أو نسب مئوية من رؤوس الأموال عن طريق القطاع العام , وثالثها, اقدام الحكومة على تشجيع الاستثمارات الداخلية وتوفير القروض للتنمية الصناعية، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمارات الخارجية.
وهذا أحد أوجه التشابه بين مصر وهذه التجارب , فمصر حاليا ورثت بعد الثورة وضعًا ماليًا مختلًا، تمثل فى ضعف معدل النمو ودين عام محلى وصل لنحو 1.3 تريليون جنيه مصري، يمثل ما يزيد على 75% من الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الجارية, فضلا عن معدل البطالة يناهز نسبة 15%، ومعدل الفقر الذى يشمل 43% من السكان .
وهذا يتطلب تفعيل ما جاء فى البرنامج الرئاسى بخصوص سياسة تقليص عجز الموازنة وخفض معدلات البطالة والتضخم والخروج من الحلقة المغلقة لدوامة الدين والعجز, على غرار ما قامت به الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل فى بداية الالفية الجديدة بتبنى سياسة التنمية الاقتصادية الشاملة، وصاحب ذلك برنامج واضح لإصلاح منظومتى الأجور والدعم وتنفيذ حقيقى للحد الأقصى للأجور، ثم وجود ترشيد حقيقى للإنفاق العام وخفض عجز الموازنة ، وأدت هذه السياسة إلى القضاء على انعدام الثقة فى الاقتصاد , وارتفاع التصنيف الائتماني, وبذلك يكون لدى مصر موازنة يمكن تحمل أعبائها بالأجلين المتوسط والطويل , كما يمكن لمصر حاليا أن تستفيد فى خطتها الطموحه للتنمية من تجارب الصين وماليزيا والبرازيل وجنوب أفريقيا فى مجالى المشروعات القومية الكبرى وإعادة التخطيط العمرانى وتطوير البنية الأساسية خاصة أن مصربدأت عملية التنمية من خلال آلية المشروعات القومية الكبرى بالساحل الشمالى وإقليم قناة السويس وشبه جزيرة سيناء والصعيد, وتخطيط عمرانى جديد يشمل مدن صناعية وأخرى تجارية على غرار مدن أكتوبر والقاهرة الجديدة من أجل تخفيف التكدس والازدحام فى الدلتا والصعيد , وإنشاء موانئ للتصدير والتجارة , ومشروعات طرق وسكة حديد ومطارات ومرافق عامة .
* التركيز على الاستثمار
ويمكن لمصر الاستفادة من تجربة الصين وماليزيا مع اليابان ودول تجمع الاسيان فى منح تسهيلات خاصة للمستثمرين الأجانب والمحليين مثل إعفاء المشروعات الاستثمارية من الضرائب لفترة محدودة ومنح تسهيلات جمركية بشرط أن تكون هناك منفعة مشتركة بحيث يتم تشغيل أكبر عدد من العمالة المحلية وبالتالى القضاء على جزء كبير من البطالة,وكذلك الاستفادة من تجربة اقامة مشروعات مشتركة فى اطار مبدأ المصلحة المشتركة للطرفين فى اختيار المشروعات على أراضى ماليزيا والصين اللتين قدمتا الأرض والعمالة المدربة بينما التزمت اليابان ودول تجمع الأسيان بالتمويل ,وتم تقييم عوائد المشروعات بناء على حصص محددة لكل من عناصر الإنتاج، ويمكن لمصر أن تكرر ذات النموذج مع الدول الخليجية بشرط أن تطوى مصر مشكلاتها مع المستثمرين الأجانب الذين أوقفت مشروعاتهم بسبب ما شاب عقودها من فساد ومن شأن ذلك تشجيع مستثمرين آخرين لجلب استثماراتهم إلى مصر.
ومنذ عام 1980 بدأت ماليزيا خطة جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنحو 9 مشروعات قيمتها الإجمالية نحو 2.1 مليون دولار، وصلت فى نهاية عام 2014 إلى نحو 70 مليار دولار فى نحو 47 ألف مشروع استثمارى وفقا لبيانات صندوق النقد الدولى , وقامت بتهيئة المناخ المناسب لعمل القطاع الخاص وتعزيزقيم العمل والالتزام بالنظام لدى العمالة الماليزية ، وتيسير الإجراءات القانونية والروتينية لدخول الاستثمارات مما أدى إلى تدفق استثمارات أجنبية هائلة على ماليزيا خاصة من اليابان حيث جلبت معها خبرة تكنولوجية ساعدت خطط التصنيع الماليزية كثيرا .
وتعتبر زيادة معدلات الاستثمار المحلى والأجنبى أحد أهم العوامل التى دفعت الاقتصاد التشيلى للتقدم حيث أسهم الاستثمار بنحو 24% من الناتج المحلى الإجمالى عام 2004، ارتفع الى 26% عام 2014, ويعتمد الاستثمارالأجنبى المباشر فى تشيلى على الصناعات الاستخراجية تليه الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات , كما استطاعت سنغافورة أن تصل بحجم الاستثمار الأجنبى المباشر بما يزيد الآن على 260 مليار دولار أمريكى فى حين شكلت الاستثمارات السنغافورية فى الخارج ما يتجاوز 200 مليار دولار.
ومن أهم عوامل نجاح تجربة التنمية فى الصين ارتفاع معدل الاستثمار المحلى الصينى الذى بلغ 39 % من الناتج المحلى الإجمالى عام 1998م ، وهناك توجهاً متزايداً فى الصين لإحلال القطاع الخاص محل الدولة فى إدارة الأنشطة الاقتصادية للتخفيف من الأعباء الملقاة على كاهل الدولة , فلقد انفتحت الصين على العالم من خلال أجندة وطنية ، فاستحوذت على نصيب الأسد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من بين الدول النامية والذى بلغ أكثر من ألف مليار دولار، وكذلك تستخدم الصين القروض الأجنبية فى مشروعات بناء كبيرة ومتوسطة وقد وافقت الصين عام 1999 على 315 ألف مشروع استثمارى أجنبى بقيمة تعاقدية قدرها 600 مليار دولار وبذلك أصبحت الصين ثانى أكبر مستقبل للاستثمارات فى العالم بعد أمريكا علما بأن نصيب العرب من الاستثمار العالمى هو 1% فقط .
كما تلقت البرازيل نحو 200 مليار دولار استثمارات مباشرة من 2004 حتى 2011، وقد أدت هذه الاستثمارات إلى رفع الطاقة الإنتاجية للدولة وتوفير فرص عمل جديدة , تزامن معها تغيير سياسة الإقراض من خلال التسهيلات الائتمانية وخفض سعر الفائدة من 13.25% إلى 8.75 % وهو ما سهل الإقراض بالنسبة للمستثمرين الصغار، وأدى ذلك إلى تسهيل إقامة المشروعات الصغيرة والتى نمت بصورة كبيرة وأصبحت محركا للنمو وتوفير فرص العمل ورفع مستوى الطاقة الإنتاجية وهو ما ساهم بشكل عام فى حل مشكلة الفقر.
ولكن تبقى القضية فى تمويل الاحتياجات التنموية التى لا يقبل القطاع الخاص على الاستثمار فيها لأنها مشروعات طويلة الأجل على غرار مشروعات البنية الأساسية ، فضلا عن كبر حجم التمويل المطلوب الذى يفوق إمكانيات كثير من مؤسسات القطاع الخاص سواء كان محليا أم أجنبيا, وهذه نفذتها الدول محل الدراسة مباشرة أو من خلال مشاركة للقطاع الخاص الوطنى أوالأجنبى ورفضت تمويلها عبرالاقتراض الخارجي، وهذا ما ينبغى فى حالة مصر حتى لا تدخل ثانية فى دوامة الديون الخارجية التى بلغت نحو 40 مليار دولار, أما الاقتراض من البنوك التجارية بالسوق الدولية لا يتوافق ومتطلبات التنمية بمصر، فطبيعة هذه القروض أنها قصيرة الأجل وذات سعر فائدة مرتفع بينما مشروعات التنمية طويلة الأجل تتطلب أسعار فائدة متدنية وفترات سماح تتواكب وطبيعة العائد من مشروعات التنمية, وهنا يمكن أن تستفيد مصر من تجارب ماليزيا وسنغافورة فى الاقتراض من اليابان وكوريا الجنوبية , فتقترض مصرمن الدول العربية ومن دول مثل ماليزيا والدول الصاعدة الأخرى بآسيا وأميركا اللاتينية لتمويل مشروعاتها التنموية على أن يكون الاقتراض الخارجى لتمويل مشروعات إنتاجية أو خدمية ذات عوائد تسدد القرض والتزاماته، ولا يستخدم القرض فى سد عجز الموازنة.
خامسا : التنمية بالاستهداف ... محاربة الفقر
وهى التى تحقق العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع الاقتصادي، وتحفيز الاستثمار كما حدث بالتجربة الماليزية والسنغافورية والكورية الجنوبية , فتجربة مكافحة الفقر فى ماليزيا من أبرز التجارب التى كُللت بالنجاح على مستوى العالم الإسلامى الذى يعيش 37% من سكانه تحت خط الفقر، فقد استطاعت ماليزيا خلال أربعة عقود (1970-2015م) تخفيض معدل الفقر من 52.4% إلى 1% وانخفضت نسبة البطالة إلى 3% حاليا، وتم تبنى إستراتيجية فى كل السياسات والخطط التنموية ، هدفت لمكافحة الفقر المدقع وإعادة هيكلة العمالة وزيادة تنمية الأعمال التجارية والصناعية للأغلبية الفقيرة من السكان مما أدى إلى تناقص فوارق الدخول بين المجموعات السكانية المختلفة.
وتم ذلك من خلال تبنى عدة برامج , منها تقديم قروض بدون فوائد للفقراء وبفترات سماح تصل إلى أربع سنوات , وتقديم إعانة شهرية تتراوح بين 130-260 دولارا أمريكيا لمن يعول أسرة وهو معوق، أو غير قادر على العمل بسبب الشيخوخة , وتنفيذ برنامج التنمية للأسروالمناطق الأشد فقراً, الذى يستهدف زيادة الخدمات الموجهة للمناطق الفقيرة فى الريف والحضربهدف تحسين نوعية الحياة وخلق المزيد من فرص العمل لهم بإنشاء العديد من المساكن للفقراء بتكلفة قليلة, وترميم المساكن القائمة وتحسين بنائها وظروف السكن فيها بتوفير خدمات المياه النقية والكهرباء والصرف الصحي, وزيادة امتلاك الفقراء للأراضى ورأس المال المادى ورفع مستويات تدريب العمالة وزيادة الرفاهية العامة ، وتوفير مرافق البنية الأساسية فى المناطق النائية الفقيرة، بما فى ذلك مرافق النقل والاتصالات السلكية واللاسلكية والمدارس والخدمات الصحية والكهرباء .
وأسست الحكومة الماليزية صندوقاً لدعم الفقراء تحدد اعتماداته فى الموازنة العامة للدولة سنويًّا إلى جانب اعتمادات مالية أخرى, لصالح مشروعات اجتماعية موجهة لتطويرالريف والأنشطة الزراعية الخاصة بالفقراء ، وتقديم قروض بدون فوائد للفقراء فى مجال الزراعة ومشروعات الأعمال الصغيرة.
كما تضمنت السياسة الضريبية فى ماليزيا بعداً اجتماعياً يستفيد منه الفقراء وذلك بتأكيد مبدأ التصاعدية فى ضريبة الدخل ، حيث يبلغ الحد الأدنى من الدخل الخاضع للضريبة حوالى 658 دولارا أمريكيا فى الشهر وتؤخذ الضريبة بعد خصم أقساط التأمين الصحى ونسبة تكلفة معيشة الأطفال ونفقات تعليمهم ومن يعول من الوالدين ومساهمة صندوق التأمين الإجباري, كما أن الدولة الماليزية شجعت المواطنين المسلمين (أفرادا وشركات) على دفع الزكاة لصالح صندوق جمع الزكاة القومى الذى يدار بواسطة إدارة الشئون الإسلامية فى مقابل تخفيض نسبة ما يؤخذ من ضريبة الدخل .
وفى هذا السياق وضعت الحكومات البرازيلية المتعاقبة مخططًا استراتيجيًا لمحاربة الفقر والحد من تفاوت الدخل وعليه فقد كثفت البرامج الاجتماعية الموجهة للفقراء، وشجعت الدولة القطاع الخاص والعام على الاستثمار فى المناطق الفقيرة، وزادت درجة تأثير وفعالية هذه المناطق فى الحكومة الفيدرالية , وحققت البرازيل نجاحًا كبيرًا فى تدعيم استقرار اقتصادها الكلى بتقديمها إعانات اجتماعية بلغ عدد المستفيدين منها نحو 11 مليون أسرة بما يعادل حوالى 33% من الشعب.
وشهدت البرازيل نوعـًا من إعادة توزيع الثروة جغرافيـًا، وذلك لأن ولايات الشمال والشرق تعانى من شدة الفقر ومن قلة فرص الاستثمارات الصناعية والتجارية مما حدا بالحكومة الفيدرالية إلى التفكير فى الاستثمار فى هذه المناطق، وهو ما تحقق من خلال الإصلاحات الليبرالية مطلع تسعينيات القرن العشرين حيث انتقلت كثير من الشركات التى كانت تتخذ من الولايات الغنية مقارا لها إلى جهة الشمال والشمال الشرقى .
وأدت سياسات النمو والحد من الفقر إلى تنمية الطبقة المتوسطة العمود الفقرى لأى مجتمع، كما أفرزت حراكـًا جديدًا فى السوق المحلية ساهم فى إنعاش الاقتصاد البرازيلى ، هذه الموجة من الإصلاحات الهيكلية والتى تمت وفق رؤية تشاركية بين القطاع العام والقطاع الخاص كانت لها آثارايجابية على المستوى الاجتماعى وعلى النظام السياسى البرازيلى .
والخلاصة أن السياسات التنموية لهذه التجارب الناجحة ركزت على ما يمكن تسميته مواجهة معادلة فاقد التنمية والنمو وهى التى تساوى ( معامل الجهل والأمية مضروبا فى اجمالى الأمية + معامل الفقرمضروبا فى عدد الفقراء + معامل البطالة مضروبا فى اجمالى العاطلين + معامل الفساد مضروبا فى اجمالى جرائم الفساد على تنوعها ) .
كما أن هذه التجارب عملت على بناء نموذج تنموى يقوم على ثلاث ركائز هى , التعليم والرأسمال البشرى , والإنطلاق الاقتصادى على أساس التوزيع الأمثل لثمار النمو من خلال تجربة رائدة فى العدالة الاجتماعية , والانفتاح الخارجى على قوى جديدة واقتصاديات واعدة , والثالثة هى مكافحة الفساد والممارسة الديمقراطية
منقول من الاهرام اليومي
اعداد الاستاذ/مختار شعيب
No comments:
Post a Comment